فصل: مطلب لَا تُقْتَلُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ حَتَّى تُنْذَرَ ثَلَاثًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي كَرَاهَةِ إحْرَاقِ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ

وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَعَ عَدَمِ الْأَذَى ‏,‏ وَأَمَّا إذَا حَصَلَ مِنْ النَّمْلِ أَذًى فَيُبَاحُ قَتْلُهُ نَصَّ عَلَيْهِ ‏.‏

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ‏:‏ إذَا آذَاك النَّمْلُ فَاقْتُلْهُ وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ نَمْلًا عَلَى بِسَاطٍ فَقَتَلَهُنَّ ‏.‏

وَعَنْ طَاوُوسٍ إنَّا لَنُغْرِقُ النَّمْلَ بِالْمَاءِ يَعْنِي إذَا آذَتْنَا ‏(‏واكرهن‏)‏ فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ أَيْ اكْرَهْ أَيُّهَا المتشرع ‏(‏بِالنَّارِ إحْرَاقَ مُفْسِدٍ‏)‏ فَالْجَارُ ‏,‏ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِإِحْرَاقٍ أَيْ اكْرَهْ إحْرَاقَ مُفْسِدٍ بِالنَّارِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ ‏.‏

فَيُكْرَهُ حَرْقُ كُلِّ ذِي رُوحٍ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ كَالنَّمْلِ ‏,‏ وَالْقَمْلِ ‏,‏ وَالْبَرَاغِيثِ ‏,‏ وَالْبَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام إنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبَ بِهَا إلَّا اللَّهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَقْنَاهَا فَقَالَ‏:‏ مَنْ حَرَقَ هَذِهِ قُلْنَا‏:‏ نَحْنُ قَالَ‏:‏ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ‏,‏ وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏ هَلْ يَجُوزُ إحْرَاقُ بُيُوتِ النَّمْلِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِغَيْرِ الْحَرِيقِ انْتَهَى ‏.‏

وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ التَّحْرِيمُ ‏,‏ وَقَطَعَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّة ‏;‏ وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ‏,‏ ثُمَّ أُجِيزَ مَعْ أَذًى لَمْ يَزُلْ إلَّا بِهِ لَمْ أُبَعِّدْ ‏(‏وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ‏)‏ أَيْ تَحْرِيمِ إحْرَاقِ الْمُفْسِدِ بِالنَّارِ ‏(‏ثُمَّ أُجِيزَ‏)‏ أَيْ ‏,‏ ثُمَّ قِيلَ بِالْجَوَازِ ‏(‏مَعْ‏)‏ حُصُولِ ‏(‏أَذًى‏)‏ مِنْهُ و ‏(‏لَمْ يَزُلْ‏)‏ الْأَذَى الْحَاصِلُ مِنْ النَّمْلِ ‏(‏إلَّا بِهِ‏)‏ أَيْ بِالتَّحْرِيقِ ‏(‏لَمْ أُبَعِّدْ‏)‏ أَنَا ذَلِكَ ‏,‏ بَلْ أَرَاهُ قَرِيبًا لِلصَّوَابِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ ‏,‏ وَالْكِتَابِ هَذَا عَلَى رَأْيِهِ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ ‏,‏ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ النَّاظِمِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ تَزُولَ الْحُرْمَةُ إذَا لَمْ يَزُلْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ مِنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ إلَّا بِالنَّارِ ‏,‏ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَمَيْلُ صَاحِبِ النَّظْمِ إلَى تَحْرِيمِ إحْرَاقِ كُلِّ ذِي رُوحٍ بِالنَّارِ ‏,‏ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَاقُ مَا يُؤْذِي بِلَا كَرَاهَةٍ إذَا لَمْ يَزُلْ ضَرَرُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ إلَّا بِالنَّارِ ‏,‏ وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ النَّبِيِّ الَّذِي أَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ ‏,‏ فَهَذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَكَأَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ سَأَلَ عَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ صَاحِبَ الشَّرْحِ فَقَالَ‏:‏ مَا هُوَ بِبَعِيدٍ انْتَهَى ‏.‏

قَالَ الْحَجَّاوِيُّ‏:‏ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا جَوَازُ إحْرَاقِ الزَّنَابِيرِ إذَا حَلَّ بِهَا ضَرَرٌ شَدِيدٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ انْتَهَى ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِهِ النَّاظِمُ رحمه الله اخْتِيَارُ الْحُرْمَةِ ‏,‏ ثُمَّ زَوَالُهَا لِلْحَاجَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ إحْرَاقَ نَحْوِ النَّمْلِ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ وَحَيْثُ عَلِمْت أَنَّهُ مَكْرُوهٌ عَلِمْت زَوَالَ الْكَرَاهَةِ لِلْحَاجَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي اسْمِ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ

وَبَيَانِ فِطْنَتِهَا وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهَا مِنْ الْبَلَاغَةِ ‏(‏فَوَائِدُ‏:‏ الْأُولَى‏)‏ اسْمُ النَّمْلَةِ الَّتِي قَالَتْ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ طاخية قَالَهُ الضَّحَّاكُ ‏,‏ وَقَالَ مُقَاتِلٌ اسْمُهَا خرمى ‏,‏ فَإِنَّ قِيلَ‏:‏ كَيْف يُتَصَوَّرُ الْحَطْمُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَهُمْ عَلَى الْبِسَاطِ ‏,‏ وَالرِّيحُ تَحْمِلُهُمْ‏؟‏ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ عليه السلام ‏,‏ أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ بَعْضُ جُنْدِهِ رَاكِبًا تُطْوَى لَهُمْ الْأَرْضُ ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَزَلُوا عَنْ الْبِسَاطِ لِقَصْدِ الْفُرْجَةِ وَالتَّبَيُّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏الثَّانِيَةُ‏)‏ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السعادة‏:‏ وَيَكْفِي مِنْ فِطْنَتِهَا يَعْنِي النَّمْلَةَ مَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهَا لِجَمَاعَةِ النَّمْلِ ‏,‏ وَقَدْ رَأَتْ سُلَيْمَانَ عليه السلام وَجُنُودَهُ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ فَتَكَلَّمَتْ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ النَّصِيحَةِ‏:‏ النِّدَاءُ ‏,‏ وَالتَّنْبِيهُ وَالتَّسْمِيَةُ ‏,‏ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ‏,‏ وَالتَّحْذِيرُ ‏,‏ وَالتَّخْصِيصُ ‏,‏ وَالتَّعْمِيمُ ‏,‏ وَالِاعْتِذَارُ ‏.‏

فَاشْتَمَلَتْ نَصِيحَتُهَا مَعَ الِاخْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ ‏,‏ وَلِذَلِكَ أَعْجَبَ سُلَيْمَانَ قَوْلُهَا وَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْهُ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُوزِعَهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَا تُسْتَبْعَدُ هَذِهِ الفطنة من أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهَا ‏,‏ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

 مطلب فِيمَا يُقَالُ لِإِخْرَاجِ النَّمْلِ

‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ ذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ عَنْ وَالِدِهِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَوَّازِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَتْنِي حَبِيبَةُ مَوْلَاةُ الْأَحْنَفِ أَنَّهَا رَأَتْ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ وَرَآهَا تَقْتُلُ نَمْلَةً فَقَالَ‏:‏ لَا تَقْتُلِيهَا ‏,‏ ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ إنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُنَّ إلَّا خَرَجْتُنَّ مِنْ دَارِي فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُقْتَلْنَ فِي دَارِي قَالَ‏:‏ فَخَرَجْنَ فَمَا رُئِيَ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ‏:‏ رَأَيْت أَبِي رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ حَرَّجَ عَلَى النَّمْلِ وَأَكْبَرُ عِلْمِي أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِوُضُوءِ الصَّلَاةِ ‏,‏ ثُمَّ رَأَيْت النَّمْلَ قَدْ خَرَجْنَ بَعْدَ ذَلِكَ نَمْلٌ كِبَارٌ سُودٌ فَلَمْ أَرَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي جَوَازِ تَشْمِيسِ دُودِ الْقَزِّ

وَأَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيَانِ تَرْبِيَتِهِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحَرِيرِ مِنْهُ وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًّا بِمَوْقِدِ ‏(‏وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ‏)‏ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْمُعْتَدِّ بِأَقْوَالِهِمْ ‏,‏ وَالْمُعَوَّلِ عَلَى نَقْلِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ ‏(‏تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ‏)‏ أَيْ الْإِبْرَيْسِمِ‏:‏ قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ‏:‏ سَأَلْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ تَشْمِيسِ الْقَزِّ يَمُوتُ الدُّودُ فِيهِ قَالَ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ‏؟‏ قُلْت يَجِفُّ الْقَزُّ ‏,‏ وَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ كَثِيرٌ قَالَ‏:‏ إذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبُوا بِالشَّمْسِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ‏,‏ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ النَّاظِمُ جَوَازَ ذَلِكَ لِلْأَصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ رضي الله عنه لِضِيقِ النَّظْمِ وَ لِأَنَّ مَا أُسْنِدَ إلَيْهِمْ يَكُونُ مُسْنَدًا إلَيْهِ ‏,‏ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَمِدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ صَرِيحًا أَوْ تَلْوِيحًا ‏,‏ أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ دُودَةَ الْقَزِّ يُقَالُ لَهَا الدُّودَةُ الْهِنْدِيَّةُ ‏,‏ وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بَزْرًا فِي قَدْرِ حَبِّ التِّينِ ‏,‏ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ فَصْلِ الرَّبِيعِ وَيَكُونُ عِنْدَ الْخُرُوجِ أَصْغَرَ مِنْ الذُّرَةِ فِي لَوْنِهِ وَيَخْرُجُ فِي الْأَمَاكِنِ الدَّفِئَةِ مِنْ غَيْرِ حَضْنٍ إذَا كَانَ مَصْرُورًا فِي حُقٍّ ‏,‏ وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ خُرُوجُهُ فَتَجْعَلُهُ النِّسَاءُ تَحْتَ ثَدْيِهِنَّ وَإِبِطِهِنَّ وَغِذَاؤُهُ وَرَقُ التُّوتِ الْأَبْيَضِ وَلَا يَزَالُ يَكْبُرُ وَيَعْظُمُ إلَى أَنْ يَصِيرَ فِي قَدْرِ الْإِصْبَعِ وَيَنْتَقِلُ مِنْ السَّوَادِ إلَى الْبَيَاضِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا ‏,‏ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ سِتِّينَ يَوْمًا فِي الْأَكْثَرِ ‏,‏ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النَّسْجِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ فِيهِ إلَى أَنْ يَنْفَدَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْهُ وَيَكْمُلَ عَلَيْهِ مَا يَبْنِيه فَيَكُونُ كَهَيْئَةِ الْجَوْزَةِ فَيَبْقَى فِيهِ مَحْبُوسًا قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ‏,‏ ثُمَّ يَنْقُبُ عَلَى نَفْسِهِ تِلْكَ الْجَوْزَةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَرَاشًا أَبْيَضَ لَهُ جَنَاحَانِ لَا يَسْكُنَانِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ يَهِيجُ إلَى السِّفَادِ فَيُلْصِقُ الذَّكَرُ ذَنَبَهُ بِذَنَبِ الْأُنْثَى وَيَلْتَحِمَانِ مُدَّةً ‏,‏ ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ وَتُبْرِزُ الْأُنْثَى الْبَزْرَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى خِرَقٍ بِيضٍ تُفْرَشُ لَهُ قَصْدًا إلَى أَنْ يَنْفَدَ مَا فِيهَا مِنْهُ ‏,‏ ثُمَّ يَمُوتَانِ ‏.‏

هَذَا إذَا أُرِيدَ مِنْهُمَا الْبِزْرُ ‏,‏ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ الْحَرِيرُ تُرِكَ فِي الشَّمْسِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ النَّسْجِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَيَمُوتُ ‏.‏

وَفِيهِ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ أَنَّهُ يَهْلِكُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ وَضَرْبِ الطَّسْتِ ‏,‏ وَالْهَاوُنِ وَمِنْ شَمِّ الْخَلِّ وَالدُّخَانِ وَمَسِّ الْحَائِضِ ‏,‏ وَالْجُنُبِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْفَأْرِ ‏,‏ وَالْعُصْفُورِ وَالنَّمْلِ ‏,‏ وَالْوَزَغِ وَكَثْرَةِ الْحَرِّ ‏,‏ وَالْبَرْدِ قَالَ فِي قُوتِ الْقُلُوبِ‏:‏ مَثَّلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ابْنَ آدَمَ بِدُودَةِ الْقَزِّ لَا يَزَالُ يَنْسِجُ عَلَى نَفْسِهِ بِجَهْلِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَصِيرَ الْقَزُّ لِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ إذَا فَرَغَ مِنْ نَسْجِهِ ‏;‏ لِأَنَّ الْقَزَّ يَلْتَفُّ عَلَيْهِ فَيَرُومُ الْخُرُوجَ فَيُشَمَّسُ وَرُبَّمَا غُمِزَ بِالْأَيْدِي حَتَّى يَمُوتَ لِئَلَّا يُقَطِّعَ الْقَزَّ وَلِيَخْرُجَ الْقَزُّ صَحِيحًا فَهَذِهِ صُورَةُ الْمُكْتَسِبِ الْجَاهِلِ الَّذِي أَهْلَكَهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فَتَنْعَمَ وَرَثَتُهُ بِمَا شَقِيَ هُوَ بِهِ ‏,‏ فَإِنْ أَطَاعُوا بِهِ كَانَ أَجْرُهُ لَهُمْ وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ ‏,‏ وَإِنْ عَصَوْا بِهِ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ ‏;‏ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي ارْتِكَابِهِمْ لَهَا بِهِ فَلَا يُدْرَى أَيُّ الْحَسْرَتَيْنِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ‏:‏ إذْهَابُهُ عُمْرَهُ لِغَيْرِهِ ‏,‏ أَوْ نَظَرُهُ لِمَا لَهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ ‏.‏

 مطلب إذَا تَرَكَ الْمَوْرُوثُ مَالًا وَعَصَى بِهِ الْوَرَثَةُ

هَلْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ أَمْ لَا‏؟‏

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَلَفَ مَالًا فَعَصَى بِهِ الْوَرَثَةُ يَكُونُ الْمُوَرِّثُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ ‏,‏ فَأَجَبْت عَنْهَا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ اكْتَسَبَ الْمَالَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ وَأَدَّى الْحُقُوقَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يَكُنْ وَجْهٌ لِمُشَارَكَةِ الْوَرَثَةِ فِي مَعْصِيَتِهِمْ بِالْمَالِ بِلَا مُحَالٍ ‏.‏

وَأَمَّا إذَا جَمَعَهُ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ وَمَنَعَ مِنْهُ الْحُقُوقَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا ‏,‏ فَهَذَا يُعَذَّبُ بِنَفْسِ الْجَمْعِ ‏,‏ وَالْمَنْعِ ‏,‏ لَا بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهِ ‏.‏

وَمِنْ ثَمَّ يُقَالُ‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ رَجُلٌ جَمَعَ مَالَهُ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ وَمَنَعَ مِنْهُ حُقُوقَ اللَّهِ ‏,‏ ثُمَّ مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَجَاءَ وَارِثُهُ فَوَجَدَ مَالًا حَاصِلًا مُجْتَمِعًا فَصَرَفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ ‏,‏ ثُمَّ مَاتَ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ فَذَاكَ جَمَعَهُ وَصَرَفَ فِي جَمْعِهِ عُمُرَهُ ‏,‏ ثُمَّ دَخَلَ بِهِ النَّارَ ‏,‏ وَهَذَا وَجَدَهُ مَجْمُوعًا لَمْ يَصْرِفْ مِنْ عُمُرِهِ فِي جَمْعِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً وَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ ‏.‏

وَمِثْلُ هَذَا عَالِمٌ عَلَّمَ النَّاسَ الْعِلْمَ فَانْتَفَعُوا بِعِلْمِهِ فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ ‏,‏ وَهُوَ دَخَلَ النَّارَ لِعَدَمِ عَمَلِهِ بِمَا يَعْلَمُ ‏,‏ وَكَذَا رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَوْلَاهُ دَخَلَ النَّارَ بِإِسَاءَتِهِ إلَيْهِ ‏,‏ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ‏.‏

وَأَشَارَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ إلَى قَضِيَّةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَشْبِيهِ الْإِنْسَانِ بِدُودِ الْقَزِّ فَقَالَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْءَ طُولَ حَيَاتِهِ مُعَنًّى بِأَمْرٍ لَا يَزَالُ يُعَالِجُهْ كَدُودِ الْقَزِّ يَنْسِجُ دَائِمًا وَيَهْلِكُ غَمًّا وَسْطَ مَا هُوَ نَاسِجُهْ ‏,‏ ‏(‏وَقَالَ آخَرُ‏)‏ يُفْنِي الْحَرِيصُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ وَلِلْحَوَادِثِ مَا يُبْقِي وَمَا يَدَعُ كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يُهْلِكُهَا وَغَيْرُهَا بِاَلَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ

 مطلب فِي جَوَازِ التَّدْخِينِ لِلزُّنْبُورِ

وَفِيهِ حِكَايَتَانِ لَطِيفَتَانِ ‏(‏و‏)‏ قَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ رضي الله عنهم ‏(‏تَدْخِينَ زُنْبُورٍ‏)‏ ‏,‏ وَهُوَ الدَّبْرُ وَيُؤَنَّثُ وَرُبَّمَا سُمِّيَتْ النَّحْلَةُ زُنْبُورًا ‏,‏ وَالْجَمْعُ الزَّنَابِيرُ ‏,‏ وَهُوَ مَقْسُومٌ مِنْ وَسَطِهِ وَلِذَلِكَ لَا يَتَنَفَّسُ مِنْ جَوْفِهِ الْبَتَّةَ ‏.‏

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ‏:‏ قَدْ يُجْعَلُ الْمُتَوَقَّعُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ ‏,‏ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ ‏,‏ وَهُوَ طِفْلٌ يَبْكِي فَقَالَ‏:‏ لَهُ مَا أَبْكَاك فَقَالَ‏:‏ لَسَعَنِي طَائِرٌ كَأَنَّهُ مُلْتَفٌّ فِي بَرَدَى حَبَرَةٍ فَقَالَ حَسَّانُ‏:‏ يَا بُنَيَّ قُلْتَ الشِّعْرَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ يَعْنِي سَتَقُولُهُ جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ ‏.‏

وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الزُّنْبُورِ‏:‏ وَلِلزُّنْبُورِ ‏,‏ وَالْبَازِي جَمِيعًا قُوَى الطَّيَرَانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقُ وَلَكِنْ بَيْنَ مَا يَصْطَادُ بَازٌ وَمَا يَصْطَادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ ‏,‏ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ التَّيْمِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَالَ‏:‏ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا رَجُلٌ يَشْتُمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما ‏,‏ فَنَهَيْنَاهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الزَّنَابِيرُ فَاسْتَغَاثَ فَأَغَثْنَاهُ فَحَمَلَتْ عَلَيْنَا فَتَرَكْنَاهُ ‏,‏ فَمَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ حَتَّى قَطَّعَتْهُ قِطَعًا ‏,‏ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ سَبُعٍ فِي شِفَاءِ الصُّدُورِ وَزَادَ عَلَيْهِ فَحَفَرْنَا لَهُ قَبْرًا فَصَلُبَتْ الْأَرْضُ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى حَفْرِهَا فَأَلْقَيْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ ‏,‏ وَالْحِجَارَةِ وَجَلَسَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَبُولُ فَوَقَعَ عَلَى ذَكَرِهِ زُنْبُورٌ مِنْ تِلْكَ الزَّنَابِيرِ فَلَمْ يَضُرَّهُ بِشَيْءٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مَأْمُورَةً ‏,‏ وَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِيمَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ يُدَخَّنُ لِلزَّنَابِيرِ‏؟‏ قَالَ إذَا خَشِيَ أَذَاهُمْ فَلَا بَأْسَ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَحْرِيقِهِ ‏;‏ لِأَنَّ فِي التَّدْخِينِ لَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْهَا وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ‏.‏

وَيُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا لِمَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ مَنْ قَتَلَ زُنْبُورًا اكْتَسَبَ ثَلَاثَ حَسَنَاتٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ لَكِنْ يُكْرَهُ إحْرَاقُ بُيُوتِهَا بِالنَّارِ ‏,‏ فَإِنْ كَانَتْ بُيُوتُ الزَّنَابِيرِ فِي نَحْوِ حَائِطٍ لَا يُمْكِنُ هَدْمُهُ أَوْ يُمْكِنُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ جَازَ حَرْقُهَا ‏,‏ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ رحمه الله ‏(‏و‏)‏ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ أَيْضًا ‏(‏شَيًّا‏)‏ هُوَ مِنْ قَوْلِك شَوَيْت اللَّحْمَ شَيًّا قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ شَوَى اللَّحْمَ شَيًّا فَانْشَوَى وَأَشْوَى ‏,‏ وَهُوَ الشِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ ‏(‏بِمَوْقِدٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَوْضِعُ الْوَقُودِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ إبَاحَةُ وَقُودِ النَّارِ عَلَى الزَّنَابِيرِ ‏,‏ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ نِظَامِهِ ‏,‏ وَلَوْ بِلَا حَاجَةٍ وَقَيَّدَهُ الْحَجَّاوِيُّ بِالضَّرُورَةِ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةُ إذْ حَرْقُ الزُّنْبُورِ مَكْرُوهٌ ‏,‏ وَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِأَدْنَى حَاجَةٍ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ

وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الدَّوَاءِ مُضِرٌّ وَيُكْرَهْ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدَعٍ وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنِ وَهُدْهُدِ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ تَنْزِيهًا ‏(‏ل‏)‏ أَجْلِ ‏(‏نَهْيِ الشَّرْعِ‏)‏ يَعْنِي الشَّارِعَ صلى الله عليه وسلم ‏(‏عَنْ قَتْلِ‏)‏ أَيْ إزْهَاقِ رُوحِ ‏(‏ضِفْدَعٍ‏)‏ مِثَالُ خِنْصَرٍ وَاحِدُ الضَّفَادِعُ ‏,‏ وَالْأُنْثَى ضفدعة ‏,‏ وَنَاسٌ يَقُولُونَ‏:‏ ضِفْدَعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ ‏,‏ قَالَ الْخَلِيلُ‏:‏ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فعلل إلَّا أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ دِرْهَمٌ وهجرع ‏,‏ وَهُوَ الطَّوِيلُ وهبلع ‏,‏ وَهُوَ الْأَعْزَلُ وقلعم ‏,‏ وَهُوَ اسْمٌ ‏,‏ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ الْأَشْهَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَسْرُ الدَّالِ وَفَتْحُهَا أَشْهُرُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ ‏,‏ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ‏,‏ وَفِي الْقَامُوسِ ضفدع كَزِبْرِجٍ وَجَعْفَرٍ وَجُنْدُبٍ وَدِرْهَمٍ وَهَذَا أَقَلُّ أَوْ مَرْدُودٌ ‏,‏ دَابَّةٌ نَهْرِيَّةٌ ‏.‏

فَيُكْرَهُ قَتْلُ الضَّفَادِعِ كَمَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ ‏,‏ وَعَبَّرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِلَا يَجُوزُ فَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا ‏.‏

‏,‏ وَقَدْ تَرَكَ الْأَطِبَّاءُ اسْتِعْمَالَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ الشَّدِيدِ ‏,‏ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ الضِّفْدَعُ لَا تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَانُونِ مَنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الضِّفْدَعِ أَوْ جُرْحِهِ وَرِمَ بَدَنُهُ وَكَمِدَ لَوْنُهُ وَقَذَفَ الْمَنِيَّ حَتَّى يَمُوتَ وَلِذَلِكَ تَرَكَ الْأَطِبَّاءُ اسْتِعْمَالَهُ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ ‏.‏

وَالضَّفَادِعُ نَوْعَانِ مَائِيَّةٌ وَتُرَابِيَّةٌ وَالتُّرَابِيَّةُ يَقْتُلُ أَكْلُهَا ‏.‏

وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الضَّفَادِعُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَتَكُونُ مِنْ سِفَادٍ وَغَيْرِ سِفَادِ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمِيَاهِ الْقَائِمَةِ الضَّعِيفَةِ الْجَرْيِ وَمِنْ العفونات وَغِبِّ الْأَمْطَارِ الْغَزِيرَةِ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ السَّحَابِ لِكَثْرَةِ مَا يُرَى مِنْهُ عَلَى الأسطحة عَقِبَ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏,‏ وَإِنَّمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ طِبَاعِ تِلْكَ التُّرْبَةِ ‏,‏ وَهِيَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا عِظَامَ لَهَا ‏,‏ وَمِنْهَا مَا يَنِقُّ ‏,‏ وَمِنْهَا مَا لَا يَنِقُّ وَاَلَّذِي يَنِقُّ مِنْهَا يَخْرُجُ صَوْتُهُ مِنْ قُرْبِ أُذُنِهِ وَيُوصَفُ بِحِدَةِ السَّمْعِ ‏,‏ وَإِذَا أَرَادَتْ النَّقِيقَ أَدْخَلَتْ فَكَّهَا الْأَسْفَلَ فِي الْمَاءِ وَمَتَى دَخَلَ الْمَاءُ فِي فَكِّهَا لَا تَنِقُّ ‏;‏ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ‏,‏ وَقَدْ عُوتِبَ عَلَى قِلَّةِ كَلَامِهِ‏:‏ قَالَتْ الضِّفْدَعُ قَوْلًا ‏,‏ فَسَّرَتْهُ الْحُكَمَاءُ فِي فَمِي مَاءٌ وَهَلْ يَنْطِقُ مَنْ فِي فِيهِ مَاءُ

 مطلب فِي أَنَّ نَقِيقَ الضِّفْدَعِ تَسْبِيحٌ لِلَّهِ تَعَالَى

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ يُقَالُ‏:‏ إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْ الضِّفْدَعِ ‏.‏

وَفِي الْكَامِلِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ ضِفْدَعًا أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَثَابَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بَرْدَ الْمَاءِ وَجَعَلَ نَقِيقَهُنَّ التَّسْبِيحَ ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الزَّاهِرِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَالَ‏:‏ لأسبحن اللَّهَ تَسْبِيحًا مَا سَبَّحَهُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ فَنَادَتْهُ ضِفْدَعٌ مِنْ سَاقِيَةٍ فِي دَارِهِ يَا دَاوُدُ تَفْخَرُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَسْبِيحِك ‏,‏ وَإِنَّ لِي لسبعين سَنَةً مَا جَفَّ لِسَانِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ‏,‏ وَإِنَّ لِي لَعَشْرَ لَيَالٍ مَا طَعِمْت خَضْرَاءَ وَلَا شَرِبْت مَاءً اشْتِغَالًا بِكَلِمَتَيْنِ فَقَالَ‏:‏ مَا هُمَا فَقَالَتْ‏:‏ يَا مُسَبَّحًا بِكُلِّ لِسَانٍ ‏,‏ وَمَذْكُورًا بِكُلِّ مَكَانٍ ‏,‏ فَقَالَ دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا ‏.‏

وَفِي شُعَبِ الْإِيْمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام ظَنَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَمْدَحْ خَالِقَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا مَدَحَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا ‏,‏ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مِحْرَابِهِ ‏,‏ والبركة إلَى جَانِبِهِ فَقَالَ‏:‏ يَا دَاوُدُ افْهَمْ مَا تُصَوِّتُ بِهِ الضِّفْدَعُ فَأَنْصَتَ إلَيْهَا ‏,‏ فَإِذَا هِيَ تَقُولُ‏:‏ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك مُنْتَهَى عِلْمِك فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ‏:‏ كَيْفَ تَرَى فَقَالَ وَاَلَّذِي جَعَلَنِي نَبِيًّا إنِّي لَمْ أَمْدَحْهُ بِهَا ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه لَا تَقْتُلُوا الضِّفْدَعَ ‏,‏ فَإِنَّهَا مَرَّتْ بِنَارِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَحَمَلَتْ فِي أَفْوَاهِهَا الْمَاءَ وَرَشَّتْ بِهِ عَلَى النَّارِ ‏.‏

 مطلب فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ

وَالضُّفْدَعِ وَالصُّرَدِ ‏,‏ وَالْهُدْهُدِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ خَمْسَةٍ ‏(‏النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالضِّفْدَعُ وَالصُّرَدُ ‏,‏ وَالْهُدْهُدُ‏)‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ قَتْلُ ‏(‏صردان‏)‏ جَمْعُ صُرَدٍ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِهَا والصردان ‏(‏طَيْرٌ‏)‏ قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الصُّرَدُ كَرُطَبٍ هُوَ فَوْقَ الْعُصْفُورِ يَصِيدُ الْعَصَافِيرَ ‏,‏ وَالْجَمْعُ صردان قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ‏,‏ وَهُوَ أَبْقَعُ ضَخْمُ الرَّأْسِ يَكُونُ فِي الشَّجَرِ نِصْفُهُ أَبْيَضُ وَنِصْفُهُ أَسْوَدُ ضَخْمُ الْمِنْقَارِ لَهُ بُرْثُنٌ عَظِيمٌ يَعْنِي أَصَابِعُهُ عَظِيمَةٌ لَا يُرَى إلَّا فِي شَعَفَةِ الْجِبَالِ ‏,‏ أَوْ فِي شَجَرَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏,‏ وَهُوَ شِرِّيرُ النَّفْسِ شَدِيدُ النَّفْرَةِ ‏,‏ غِذَاؤُهُ مِنْ اللَّحْمِ وَلَهُ صَفِيرٌ مُخْتَلِفٌ يُصَفِّرُ لِكُلِّ طَائِرٍ يُرِيدُ صَيْدَهُ بِلُغَتِهِ فَيَدْعُوهُ إلَى التَّقَرُّبِ مِنْهُ ‏,‏ فَإِذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ شَدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ ‏,‏ وَلَهُ مِنْقَارٌ شَدِيدٌ ‏,‏ فَإِذَا نَقَرَ وَاحِدًا قَدَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَكَلَهُ ‏,‏ وَقَدْ رَوَى ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي غَلِيظٍ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ‏:‏ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى يَدِي صُرَدٌ فَقَالَ‏:‏ هَذَا أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ عَاشُورَاءَ ‏,‏ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى قَالَ الْحَاكِمُ‏:‏ وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَضَعَهَا قَتَلَةُ الْحُسَيْنِ ‏.‏

قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ ‏,‏ وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ لِطَائِفِ المعارف وَمِنْ أَعْجَبِ مَا وَرَدَ فِي عَاشُورَاءَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ الْوَحْشُ ‏,‏ وَالْهَوَامُّ ‏.‏

رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ الصُّرَدَ أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ عَاشُورَاءَ خَرَّجَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَإِسْنَادُهُ غَرِيبٌ ‏,‏ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏.‏

وَحُكْمُ هَذَا الطَّيْرِ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ لِمَا رَوَى سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ ‏,‏ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ ‏.‏

وَالنَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى الْحُرْمَةِ ‏,‏ إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْت لَك مِنْ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ ظَهَرَ لَك أَنَّهُ يُكْرَهُ ‏(‏قَتْلُ ذَيْنِ‏)‏ يَعْنِي الضِّفْدَعَ وَالصُّرَدَ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا قَتْلُ ‏(‏هُدْهُدٍ‏)‏ بِضَمِّ الْهَاءَيْنِ‏)‏ وَإِسْكَانِ الدَّالِ بَيْنَهُمَا هُوَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ ذُو خُطُوطٍ وَأَلْوَانٍ ‏,‏ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْأَخْبَارِ وَأَبُو ثُمَامَةَ وَأَبُو عِبَادٍ وَيُقَالُ لَهُ الْهَدَاهِدُ قَالَ الرَّاعِي‏:‏ كَهَدَاهِدَ كَسَرَ الرُّمَاةُ جُنَاحَهُ ‏.‏

وَالْجَمْعُ الْهَدَاهِدُ بِالْفَتْحِ ‏,‏ وَهُوَ طَيْرٌ مُنْتِنُ الرِّيحِ طَبْعًا وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ كَمَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ فِي بَاطِنِ الزُّجَاجِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ دَلِيلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام عَلَى الْمَاءِ ‏,‏ وَبِهَذَا السَّبَبِ تَفَقَّدَهُ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي فَوَائِدِ بِرِّ الْوَالِدِينَ ‏.‏

حِكَايَةٌ فِي قَوْلِ الْهُدْهُدِ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام‏:‏ أَنْتَ وَعَسْكَرُك فِي ضِيَافَتِي ‏(‏نُكْتَةٌ‏)‏ حَكَى الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ الْهُدْهُدَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام‏:‏ أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِي ضِيَافَتِي ‏.‏

قَالَ‏:‏ أَنَا وَحْدِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا أَنْتَ وَأَهْلُ عَسْكَرِك فِي جَزِيرَةِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا ‏.‏

فَحَضَرَ سُلَيْمَانُ بِجُنُودِهِ فَطَارَ الْهُدْهُدُ فَاصْطَادَ جَرَادَةً وَخَنَقَهَا وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ كُلُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ فَاتَهُ اللَّحْمُ نَالَهُ الْمَرَقُ ‏,‏ فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مِنْ ذَلِكَ حَوْلًا وَفِي ذَلِكَ قِيلَ شَعْرٌ‏:‏ جَاءَتْ سُلَيْمَانَ يَوْمَ الْعَرْضِ هُدْهُدَةٌ أَهْدَتْ لَهُ مِنْ جَرَادٍ كَانَ فِي فِيهَا وَأَنْشَدَتْ بِلِسَانِ الْحَالِ قَائِلَةً إنَّ الْهَدَايَا عَلَى مِقْدَارِ هَادِيهَا لَوْ كَانَ يُهْدَى إلَى الْإِنْسَانِ قِيمَتُهُ لَكَانَ يُهْدَى لَك الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ قَتْلِ الْهِرِّ

وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إلَّا مَعَ الْأَذَى ‏,‏ وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظُرْ إذَنْ غَيْرَ مُفْسِدِ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ أَيْضًا تَنْزِيهًا ‏(‏قَتْلُ‏)‏ أَيْ إرْهَاقُ رُوحِ ‏(‏الْهِرِّ‏)‏ بِالْكَسْرِ ‏,‏ وَهُوَ السِّنَّوْرُ ‏,‏ وَالْجَمْعُ هِرَرَةٌ كَقِرْدٍ وَقِرَدَةٍ ‏,‏ وَالْأُنْثَى هِرَّةٌ ‏.‏

وَيُرْوَى أَنَّ الْهِرَّةَ خُلِقَتْ مِنْ عَطْسَةِ الْأَسَدِ ‏,‏ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ‏,‏ وَالْبَزَّارُ ‏,‏ وَرِجَالُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَيَسُرُّك أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا ‏,‏ قَالَ‏:‏ فَقَدْ شَرِبَ مَعَك الشَّيْطَانُ ‏.‏

دُعَاءٌ لِتَفْرِيجِ الْكَرْبِ وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنْبَلِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏‏:‏ كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُبَشِّرُهَا بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَتْ‏:‏ وَاَللَّهِ لَقَدْ هَجَرَنِي الْقَرِيبُ ‏,‏ وَالْبَعِيدُ حَتَّى هَجَرَتْنِي الْهِرَّةُ ‏,‏ وَمَا عُرِضَ عَلَيَّ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ فَكُنْت أَرْقُدُ وَأَنَا جَائِعَةٌ فَرَأَيْت فِي مَنَامِي فَتًى فَقَالَ لِي‏:‏ مَا لَكِ فَقُلْت حَزِينَةٌ مِمَّا ذَكَرَ النَّاسُ فَقَالَ‏:‏ اُدْعِي بِهَذِهِ يُفَرِّجْ اللَّهُ عَنْك فَقُلْت‏:‏ وَمَا هِيَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُولِي يَا سَابِغَ النِّعَمِ ‏,‏ وَيَا دَافِعَ النِّقَمِ ‏,‏ وَيَا فَارِجَ الْهَمِّ ‏,‏ وَيَا كَاشِفَ الظُّلَمِ ‏,‏ وَيَا أَعْدَلَ مَنْ حَكَمَ ‏,‏ وَيَا حَسِيبَ مَنْ ظَلَمَ ‏,‏ وَيَا وَلِيَّ مَنْ ظُلِمَ ‏,‏ وَيَا أَوَّلُ بِلَا بِدَايَةٍ ‏,‏ وَيَا آخِرُ بِلَا نِهَايَةٍ ‏,‏ وَيَا مَنْ لَهُ اسْمٌ بِلَا كُنْيَةٍ اجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا قَالَتْ‏:‏ فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا رَيَّانَةٌ شَبْعَانَةٌ ‏,‏ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فَرَجِي ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي تَحْقِيقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ

وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بِالْهِرِّ ‏,‏ وَقَالَ ‏"‏‏:‏ إنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضَ ‏"‏ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِشِينَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ‏:‏ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتُهَا ‏.‏

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فَتْحَ الْخَاءِ وَكَسْرَهَا وَضَمَّهَا ‏,‏ وَالْفَتْحُ هُوَ الْمَشْهُورُ ‏.‏

وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا رَأَيْتهَا فِي النَّارِ ‏,‏ وَهِيَ تَنْهَشُ قُبُلَهَا وَدُبُرَهَا ‏.‏

قَالَ الْعُلَمَاءُ‏:‏ وَالْمَرْأَةُ الْمُعَذَّبَةُ كَمَا كَانَتْ كَافِرَةً كَمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ ‏,‏ وَالْحَافِظُ أَبُو نَعِيمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ ‏.‏

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَاسْتَحَقَّتْ التَّعْذِيبَ بِكُفْرِهَا وَظُلْمِهَا ‏,‏ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ‏:‏ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً وَنَفَى النَّوَوِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَطَّلِعَا عَلَى الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ ‏.‏

وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَعَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَتْ‏:‏ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ امْرَأَةَ عُذِّبَتْ بِالنَّارِ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ‏؟‏ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَقَالَتْ عَائِشَةُ الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ إنَّمَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ ذَلِكَ كَافِرَةً يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إذَا حَدَّثْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ ‏"‏ ‏.‏

وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ والدارقطني ‏,‏ وَالْحَاكِمُ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي جَوَازِ قَتْلِ الْهِرَّةِ إذَا كَانَتْ مُفْسِدَةً

وَلَوْ مَمْلُوكَةً إذَا عَلِمْت هَذَا فَيُكْرَهُ قَتْلُهَا ‏(‏إلَّا مَعَ الْأَذَى‏)‏ الصَّادِرِ مِنْهَا كَأَكْلِ الطُّيُورِ وَكَفْءِ الْقُدُورِ ‏,‏ فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي قَتْلِهَا ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي قَتْلِهَا قَوْلَيْنِ‏:‏ الْحُرْمَةُ ‏,‏ وَالْكَرَاهَةُ ‏.‏

قَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى الْحُرْمَةَ وَعِبَارَتُهُ‏:‏ وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْهِرِّ ‏,‏ وَقِيلَ يُكْرَهُ ‏.‏

‏(‏وَإِنْ مُلِكَتْ‏)‏ الْهِرَّةُ بِأَنْ كَانَ لَهَا مَالِكٌ ‏(‏فَاحْظُرْ‏)‏ أَيْ امْنَعْ مِنْ الْقَتْلِ ‏(‏إذَنْ‏)‏ أَيْ حَيْثُ كَانَتْ مَمْلُوكَةً ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ ‏,‏ وَإِنْ مُلِكَتْ حَرُمَ قَتْلُهَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ ‏(‏غَيْرَ مُفْسِدِ‏)‏ مِنْهَا ‏,‏ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ ‏,‏ وَلَوْ مَمْلُوكًا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ‏:‏ وَلَهُ قَتْلُ هِرٍّ بِأَكْلِ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ كَالْفَوَاسِقِ ‏.‏

وَقَيَّدَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَنَصَرَهُ الْحَارِثِيُّ حِينَ أَكْلِهَا فَقَطْ ‏.‏

وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيَضْمَنُ بِاقْتِنَاءِ سِنَّوْرٍ يَأْكُلُ فِرَاخًا عَادَةً مَعَ عِلْمِهِ كَالْكَلْبِ ‏,‏ وَلَهُ قَتْلُهَا بِأَكْلِ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ كَالْفَوَاسِقِ ‏,‏ وَفِي الْفُصُولِ حِينَ أَكْلِهِ ‏.‏

وَفِي التَّرْغِيبِ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ كَصَائِلٍ انْتَهَى ‏.‏

وَالْمَذْهَبُ خِلَافُ مَا فِي التَّرْغِيبِ فَظَهَرَ أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلَيْنِ فِي قَتْلِ الْهِرِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَيَحْرُمُ ‏,‏ أَوْ يَكُنْ مُفْسِدًا فَيُبَاحُ ‏.‏

وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ فَقَتْلُ الْكَلْبِ أَوْلَى ‏.‏

قَالَ النَّاظِمُ‏:‏ وَكَذَا يَعْنِي يُبَاحُ قَتْلُهَا لَوْ كَانَ يَبُولُ عَلَى الْأَمْتِعَةِ ‏,‏ أَوْ يَكْسِرُ الْآنِيَّةَ وَيَخْطِفُ الْأَشْيَاءَ غَالِبًا إلَّا قَلِيلًا لِمَضَرَّتِهِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِمُلَاحَظَةِ قَيْدٍ فِي حَالَةِ الْإِفْسَادِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ إنْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ ‏,‏ وَمَنْ تَعَدَّى بِقَتْلِهَا فَضَمَانُهَا مُخَرَّجٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا ‏.‏

قَدَّمَ فِي الْإِقْنَاعِ الْجَوَازَ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ ‏,‏ اخْتَارَهُ فِي الْهَدْيِ ‏,‏ وَالْفَائِقِ وَصَحَّحَهُ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَفِي بَيْعِ هِرٍّ وَمَا يُعَلَّمُ الصَّيْدَ أَوْ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ كَفِيلٍ وَفَهْدٍ وَبَازٍ وَصَقْرٍ وَعُقَابٍ وَشَاهِينَ وَنَحْوِهَا رِوَايَتَانِ انْتَهَى ‏.‏

 مطلب هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْهِرِّ وَمَا يُعَلَّمُ الصَّيْدَ أَوْ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ أَمْ لَا‏؟‏

قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ‏:‏ بَيْعُ الْهِرِّ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا‏؟‏ أُطْلِقَ الْخِلَافُ ‏,‏ وَأَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ ‏,‏ وَالْمُذْهَبِ ‏,‏ وَالْمُسْتَوْعِبِ ‏,‏ وَالْخُلَاصَةِ ‏,‏ وَالْمُقْنِعِ وَالتَّلْخِيصِ ‏,‏ وَالْبُلْغَةِ ‏,‏ وَالْمُحَرَّرِ وَالرِّعَايَتَيْنِ ‏,‏ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ وَالزَّرْكَشِيِّ وَتَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِمْ إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَيَصِحُّ ‏,‏ وَهُوَ الصَّحِيحُ صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ ‏,‏ وَالْكَافِي وَالنَّظْمِ وَغَيْرِهِمْ ‏,‏ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ وَغَيْرُهُمْ ‏,‏ وَقَدَّمَهُ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ ‏,‏ وَقَطَعَ بِهِ الْخِرَقِيُّ وَصَاحِبُ الْوَجِيزِ ‏,‏ وَالْمُنَوَّرِ وَمُنْتَخَبِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

‏,‏ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَصَاحِبُ الْهَدْيِ ‏,‏ وَالْفَائِقِ وَغَيْرُهُمْ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ‏:‏ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهِرِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِلنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنْ بَيْعِهِ انْتَهَى ‏.‏

فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ الصِّحَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَالنَّهْيُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْحَافِظُ بْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ سَأَلْت جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ‏:‏ زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ ‏.‏

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْهِرِّ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ وُجِدَ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْبَغْلِ ‏,‏ وَالْحِمَارِ ‏.‏

وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏ الْأَوَّلُ‏:‏ بِحَمْلِهِ عَلَى الْهِرِّ الْبَرِّيِّ الْوَحْشِيِّ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب لَا تُقْتَلُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ حَتَّى تُنْذَرَ ثَلَاثًا

وَبَيَانُ عِلَّةِ الْإِنْذَارِ وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ ثَلَاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ ‏(‏قَتْلُك‏)‏ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ المتشرع ‏(‏حَيَّاتِ‏)‏ جَمْعُ حَيَّةٍ ‏,‏ وَهِيَ النَّاشِئَةُ فِي ‏(‏الْبُيُوتِ‏)‏ جَمْعُ بَيْتٍ ‏(‏و‏)‏ الْحَالُ أَنَّك قَبْلَ قَتْلِك لَهَا ‏(‏لَمْ تَقُلْ‏)‏ أَنْتَ ‏(‏ثَلَاثًا‏)‏ مِنْ الْمَرَّاتِ ‏(‏لَهُ‏)‏ أَيْ لِذَلِكَ الثُّعْبَانِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْحَيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ ‏,‏ وَالْأُنْثَى فَالْمُرَادُ وَلَمْ تَقُلْ لِذَلِكَ الْفَرْدِ مِنْ الْحَيَّاتِ ‏(‏اذْهَبْ سَالِمًا‏)‏ مِنَّا فَلَا نُؤْذِيك وَلَا تُؤْذِينَا ‏(‏غَيْرَ مُعْتَدٍ‏)‏ أَنْتَ عَلَيْنَا وَغَيْرَ مُعْتَدِينَ نَحْنُ عَلَيْك فَكُلٌّ مِنَّا وَمِنْك يَرْبَحُ السَّلَامَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْمُطَالَبِ فِي الدَّارَيْنِ وَمَا زَادَ عَنْهَا فَرِبْحٌ وَفَائِدَةٌ ‏.‏

وَإِنَّمَا شُرِعَ مَا ذُكِرَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا ‏,‏ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ‏"‏ وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمَدِينَةِ ‏.‏

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ بَلَدٍ لَا تُقْتَلُ حَتَّى تُنْذَرَ ‏.‏

وَرَوَى مُسْلِمٌ وَمَالِكٌ فِي آخِرِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ قَالَ‏:‏ فَوَجَدْته يُصَلِّي فَجَلَسْت لِأَنْتَظِرَ فَرَاغَهُ فَسَمِعْت حَرَكَةً تَحْتَ سَرِيرٍ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ‏,‏ فَالْتَفَتُّ ‏,‏ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ اجْلِسْ فَجَلَسْت ‏,‏ فَلِمَا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ‏:‏ أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ‏؟‏ قُلْت‏:‏ نَعَمْ قَالَ‏:‏ كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ‏,‏ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْخَنْدَقِ ‏,‏ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ ‏,‏ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏:‏ خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك بَنِي قُرَيْظَةَ ‏"‏ ‏,‏ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ‏,‏ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ‏,‏ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً ‏,‏ فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ اُكْفُفْ عَنْك رُمْحَك وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي ‏,‏ فَدَخَلَ ‏,‏ فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إلَيْهَا بِرُمْحِهِ فَانْتَظَمَهَا ‏,‏ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ ‏,‏ فَرَكَّزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ وَخَرَّ الْفَتَى مَيِّتًا فَمَا نَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى قَالَ‏:‏ فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَقُلْنَا‏:‏ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَهُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِصَاحِبِكُمْ ‏"‏ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ ‏"‏ إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا ‏,‏ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ ‏,‏ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ ‏,‏ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ‏"‏ ‏.‏

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِنْذَارِ هَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ‏,‏ أَوْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ وَكَلَامُ النَّاظِمِ صَالِحٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ يُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَيَّةِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ ‏.‏

وَفِي الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ انْتَهَى ‏.‏

وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ‏.‏

قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ‏:‏ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ‏,‏ وَقَالَ الْيُونِينِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ‏:‏ يُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَيَّةِ فِي الْبُيُوتِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ ‏,‏ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ فِي الْفُصُولِ ثَلَاثًا وَلَفْظُهُ فِي الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ‏.‏

وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا اذْهَبْ بِسَلَامٍ لَا تُؤْذِنَا ‏.‏

وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ تَقُولُ‏:‏ أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهم السلام أَنْ لَا تَبْدُوا لَنَا وَلَا تُؤْذُونَا ‏.‏

وَفِي أُسْدِ الْغَابَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذَا ظَهَرَتْ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ فَقُولُوا لَهَا‏:‏ إنَّا نَسْأَلُك بِعَهْدِ نُوحٍ صلى الله عليه وسلم وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَا تُؤْذِينَا ‏,‏ فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا ‏,‏ فَإِنْ ذَهَبَتْ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِلَّا قَتَلَهُ إنْ شَاءَ ‏,‏ وَإِنْ رَآهُ ذَاهِبًا كُرِهَ قَتْلُهُ وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏